دور النقود في المالية الإسلامية
ما دور النقود في المالية الإسلامية وما آثاره؟
طارق الغمراوي
في المجتمعات القديمة جدا كانت المعاملات تتم بطريقة المقايضة، فاخترع الناس النقود لتسهيل الشراء والبيع وتسهيل تقويم السلع والخدمات. إن وظيفة النقود في الشرع هي أن تكون معيارا لقيم الأشياء، وأن تكون وسيطا للتبادل، سواء أكان التبادل في الحال أم دَينا. قال ابن رُشد (ت 595 هـ): “لما عَسُر إدراك التساوي في الأشياء
المختلفة الذوات، جُعِل الدينار والدرهم لتقويمها أعني لتقديرها”. ( ابن رشد ، بداية المجتهد). يشير ابن رشد هنا إلى أن وظيفة النقود هي المعيار لقيم الأشياء.
وقال الغزالي عن الذهب والفضة، وهما النقدان في الأزمنة المتقدمة: “خلقهما الله تعالى لتتداولهما الأيدي ويكونا حاكمَين بين الأموال بالعدل، ولحكمةٍ أخرى هي التوسلُ بهما إلى سائر الأشياء؛ لأنهما عزيزان في أنفسهما ولا غرضَ في أعيانهما، (..) مَن ملكهما فكأنه ملك كل شيء”. (الغزالي ، إحياء علوم الدين)، يعني أن من ملك النقود يستطيع أن يحصل على أي سلعة بسهولة لأن النقود تقوم مقام أي سلعة وليس هذا في غير النقود، وهو يشير بقوله “لتتداولهما الأيدي” إلى ميزة سيولة النقود، وبقوله “حاكمَين بين الأموال بالعدل” إلى استخدام النقود في تقدير القيم الحقيقية بين الأشياء، وبقوله “التوسل بهما إلى سائر الأشياء” إلى استخدام النقود وسيطا للتبادل للتوصل بها إلى السلع والخدمات المختلفة، وكذلك يشير بقوله “لا غرض في أعيانهما” إلى أن النقود غير مقصودة لذاتها، ولكن المقصود هو السلع والخدمات.
لا تدر النقود نقودا إلا عندما يكون مرتبطًا بإنتاج سلعة أو خدمة حقيقية. وإذا أصبح النقد هدفًا للربح من نفسه ، سيتعطل الإنتاج والعمل ، حيث لن يكون هناك حافز للاستثمار في نشاط حقيقي طالما أن المال يولد ربحًا من تلقاء نفسه.
وعلى هذا الأساس فشأن النقود أن لا تُدر ربحا من ذاتها، ولا تولد النقود نقودا من غير أن ترتبط بإنتاج سلعة أو خدمة حقيقية. فلا يجوز التربح من مبادلة النقود بنقود مثلها، ولا يجوز تأجير النقود أو استئجارها، بل لا بد أن ترتبط النقود بالإنتاج. وذلك لأنا لو جعلنا النقود غرضا للتربح من ذاتها لتعطّل الإنتاج والعمل إذ لا يكون إذن داعٍ إليهما ما دامت النقود تدر ربحا من نفسها، وذلك يفتح باب التلاعب بالنقود التي بها قوام حياة الناس، وباب التقلب في الأسعار، ويزيد الأثرياءَ ثراءً والفقراء فقرا. ولهذا قال ابن القيم (ت 751 هـ): “الأثمان لا تقصد لأعيانها، بل يقصد بها التوصل إلى السلع، فإذا صارت في نفسها سلعةً تُقصد لأعيانها فسَد أمر الناس”.
وقد كان لهذا الدور للنقود في الشريعة تجليات عديدة في أحكام التمويل الإسلامي. وهذه بعض الأمثلة. منها أن أي زيادة مطلوبة في القرض تعد ربا، وهو ما ينطبق على الفوائد المصرفية والسندات. ومنها أنه لا يجوز استبدال الذهب بالذهب أو عملة بنفسها مع اختلاف القدر. وبالمثل، لا يُسمح ببيع الدين نقدا ما لم يكن النقد بنفس مبلغ الدين. وأنه لا يمكن ضمان عوائد الاستثمارات.
يتفق الاقتصاديون الغربيون بشكل عام مع علماء الإسلام حول هذا المفهوم لدور النقود. ولقد نصوا منذ القرن التاسع عشر على أن للنقود الوظائف الثلاث المذكورة في كتب الاقتصاد والتمويل: أنها وسيلة للتبادل، وأنها وحدة لتقييم الأشياء، وأنها مخزن للقيمة بمعنى أنها تدخر ويحتفظ بها الإنسان ليستخدمها في المستقبل (تعتمد الأخيرة على افتراض عدم التضخم أو انخفاضه). وعلى الرغم من أن حقيقة أن المال ليس سلعة هي مسألة راسخة في النظرية الاقتصادية الوضعية، إلا أن التطبيق العملي قد تخلى تمامًا عن هذا المبدأ وأصبح يتعامل مع النقود كسلعة.
وفي الوقت الحاضر يعتمد الاقتصاد والتمويل على هذه النظرة الجديدة للنقود بشكل مكثف، كما ينعكس على سبيل المثال في النظام المصرفي، فتعمل البنوك كمقترضين من الأفراد والشركات والحكومات والبنوك الأخرى وتقرضهم ، وفي الواقع ، تقرض البنوك أكثر بكثير من النقد الذي تتلقاه من المودعين، وذلك في شكل ودائع جديدة يقدمها البنك إلى المقترضين والتي يمكنهم السحب منها في أي وقت ، مما يتسبب في إيجاد النقود (وهو ما يسمى في الاقتصاد بخلق النقود)، وتكسب البنوك فوائد مضاعفة على هذه القروض الجديدة.
كل هذا يقوم على فكرة أن النقود سلعة. وفي الحقيقة يجادل العديد من المدافعين عن المصالح المصرفية في الوقت الحاضر بالقول إن النقود هي سلعة مثل أي سلعة تُباع وتُؤجر ، وبالتالي لها ثمن ؛ من أجل تفسير الفائدة على أنها سعر أو رسم على النقود. وقد اتضح أن هذه الحجة خطأ من منظور الشريعة والاقتصاد ، مما كان له تأثير سلبي كبير على الاقتصادات والمجتمعات.